انتهى بوتفليقة الرئيس، بإعلان استقالته مساء 2 إبريل/نيسان 2019 ليبقى نظام بوتفليقة السياسي قائما. نظام لم يخلقه الرجل، فقد وجده قائما عندما عاد للسلطة في 1999. رغم مسؤولياته الأكيدة كرئيس، في تعميق عيوبه الأصلية كالفساد والجهوية وتزوير الانتخابات وغيرها من العيوب التي استفحلت خلال فترة حكمه الطويلة.
وهو ما يبرر إصرار الجزائريين على عدم الاكتفاء بطلب رحيل الرئيس لوحده، منذ المسيرة الأولى التي نظموها في 22 فبراير/شباط 2019. فقد أجمع الجزائريون على عدم طرح أي مطلب اقتصادي أو اجتماعي فئوي، والتركيز على المطالبة برحيل النظام بنسائه ورجاله، وعلى رأسهم بوتفليقة. إجماع على المطلب السياسي المحدد كان ولايزال من أسباب قوة هذا الحراك الشعبي، الذي نجح في الوصول إلى تحقيق انتصار أولي برحيل الرئيس بوتفليقة، قبل نهاية مدة عهدته الرابعة.
رؤية استراتيجية صائبة ميزت الحراك الشعبي، تؤهله للاستمرار في تحقيق نجاحات أخرى، وهو يتصدى الى مسألة القطيعة مع هذا النظام السياسي، من خلال ما يقترحه من آليات سياسية، تمهد للدخول في مرحلة انتقالية، يقف في وجهها الكثير من التحديات.
مرحلة انتقالية مازال النقاش حاصل داخل الحراك الشعبي، وبين الأحزاب السياسية المعارضة، حول تفاصيل آلياتها ومحطاتها الكبرى وآجالها، رغم ما هو موجود من اتفاق حولها لحد الساعة، بعد شهر ونصف الشهر فقط من انطلاق الحراك، فالاتفاق حتى الآن حاصل على ضرورة الانطلاق في مرحلة انتقالية، تستند إلى الدستور الحالي حتى وهي تتجاوز ضغوطاته التي تضمنتها المادة 102 التي تفرض رئيس مجلس الأمة الحالي المرفوض شعبيا لتسيير المرحلة الانتقالية. تجاوز يتم اعتمادا على المادتين السابعة التي جاء فيها، إن الشعب مصدر كل سلطة وإن السيادة الوطنية ملك للشعب وحده. زيادة على الفقرة الاولى والثانية من المادة الثامنة التي تقول، إن السلطة التأسيسية ملك للشعب، وإن الشعب يمارس سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها.
اقتراح تفعيل هذه المواد الذي طالب به في الأول، جزء من المعارضة الحزبية وتبناه قائد الأركان بعد المسيرة الشعبية السادسة، يفتح أبواب مرحلة انتقالية أولى تنتهي بعد الانتخابات الرئاسية التي يصر الكثير من القوى داخل الحراك، وجل الطبقة السياسية المعارضة على إجرائها، بعد تغيير الإطار القانوني للانتخابات وتكوين لجنة وطنية مستقلة، تتكفل بالإشراف عليها وتنظيمها، خارج كل تدخل لقوى الفساد الإداري، التي تعودت على مسخ الانتخابات (وزارة الداخلية. ولاة. مصالح أمنية ـ سياسية). تفعيل هذه المواد الذي لا يعني غياب مقترحات حزبية وشعبية أخرى، من خارج الدستور هذه المرة، تنادي بالانطلاق مباشرة في مرحلة انتقالية، تعتمد على «مجلس تأسيسي سيد»، بعد حل كل المؤسسات الحالية تكون بداية بناء مؤسساتي جديد على أنقاض مؤسسات النظام، بما فيها البرلمان. مواقف تدافع عنها جبهة القوى الاشتراكية وأقصى اليسار التروتسكي (حزب العمال والحزب الاشتراكي للعمال).
أجمع الجزائريون على عدم طرح أي مطلب اقتصادي أو اجتماعي فئوي، والتركيز على المطالبة برحيل النظام وعلى رأسه بوتفليقة
الانطلاق في هذه المرحلة الانتقالية وتسييرها الذي طرح بحدة مكانة الجيش، بعد أن تدخلت قيادته لفرض الاستقالة على الرئيس بوتفليقة بداية هذا الشهر. بعد التغييرات الحاصلة في مواقف قيادته من الحراك، ومن الرئيس بوتفليقة، الذي دافع قائد الأركان عن عهدته الخامسة، لينفض يده منه ويطالبه بالمغادرة. ست مسيرات شعبية كانت كافية لتقرب مواقف قائد الأركان والمؤسسة العسكرية من مواقف الحراك الشعبي، ليس إزاء بوتفليقة فقط، بل كذلك عندما تعلق الأمر بالحرب على الفساد، التي اندلعت هذه الأيام ضد بعض الوجوه التي ارتبطت بنظام بوتفليقة كرئيس منظمة أرباب العمل السابق.
الجيش الجزائري الذي يطالبه الحراك الشعبي بالبقاء ضمن أدواره الدستورية، وعدم الخروج عنها، حتى في هذا الظرف الحساس الذي يعرفه البلد، والذي قد يجعل قيادته تفكر في العودة الى المشهد السياسي، اعتمادا على التجربة التاريخية لهذا الجيش، الذي كان اللاعب السياسي الرئيسي في اتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر بالقضايا المفصلية، بما فيها مباركة الرؤساء وحتى «اقتراحهم» على الطبقة السياسية، كما حصل منذ الاستقلال في أكثر من محطة تاريخية، لغاية بوتفليقة الذي أنهي حكمه الحراك الشعبي بمباركة من الجيش، وليس العكس، كما تحاول ان توهمنا بعض التحاليل الإعلامية العربية، التي مازالت تحت تأثير «صدمة الحالة المصرية»، التي تصر على مقارنتها مع الحالة الجزائرية، رغم ما هو موجود من اختلاف نوعي بينهما، لا يلغي بالضرورة كل نقاط التشابه الأخرى.
فإذا كان المطلوب شعبيا من الجيش ان يساير الحراك الشعبي ويدعمه في مطالبه بالقطيعة مع النظام السياسي ووجوهه الفاسدة وخلق مؤسسات سياسية شرعية تعيد اللحمة بين المواطنين ودولتهم الوطنية، فإن الحراك مطالب بدعم الاتجاهات الثقيلة التي تعيشها المؤسسة العسكرية من الداخل، وفي علاقاتها بالمحيط السياسي المتجدد. على رأس هذه الاتجاهات الثقيلة التوجه نحو احترافية عسكرية، تبعد الجيش عن التدخل في الشأن السياسي، الذي يبقى من احتكار الطبقة السياسية. مهام يجب أن تبقى على رأس أولويات المرحلة الانتقالية التي ستنطلق فيها الجزائر قريبا، تحت مراقبة الحراك الشعبي، كضمانة رئيسية.
توجه نحو أدوار مهنية، يعتمد على تنشئة سياسية هي السائدة الآن بين قيادات الجيش وجنوده من الأجيال الشابة المتعلمة التي ابتعدت بشكل يكاد كليا عن التنشئة القديمة المسيسة، التي آمنت بالأدوار السياسية لقيادة الجيش، وحقها في التدخل في الشأن السياسي. كما كان الحال مع الأجيال الكبيرة في السن، مما بقي من جيل حرب التحرير ومرحلة الأحادية السياسية، التي اختفت عمليا بالوفاة والتقاعد من على رأس قيادة المؤسسة، باستثناءات قليلة جدا، قد يكون قائد الأركان الحالي من بينها، وأحد أهم وجوهها التي مازالت في الخدمة. فالجيش كان على رأس مؤسسات الدولة التي استفادت من التحولات السوسيولوجية والديموغرافية السريعة التي عرفتها الجزائر كانتشار التعليم وحتى التأنيث، قبل الحزب السياسي الذي مازال أكثر انغلاقا أمام هذه التحولات النوعية.
فالشاب(ة) الجزائري الذي ينخرط داخل الجيش في السنوات الأخيرة، ينخرط للحصول على مهنة وشروط عمل ومسار مهني قبل كل شيء، من دون أي طموحات للعب أدوار سياسية، لم يعد يعرف كيف يقوم بها ولا يطالب بها أصلا ولا يحضر لها داخل المؤسسة، لكي ينجزها داخل جيش لم يعد يملك قيادات صاحبة كاريزما سياسية قوية، كما كان الحال لوقت قريب. الجيش الذي ليس من مصلحة الحراك الشعبي الدخول معه في مواجهات من أي نوع، مهما كانت الاختلافات الظرفية الآنية مع قيادته الحالية، التي اقتربت من مطالب الحراك الشعبي بشكل واضح في وقت قياسي، قد يؤهل الحالة الجزائرية في التغيير السياسي لكي تكون نموذجا ناجحا، يخرج المنطقة العربية من حالة «التروما الجماعية «التي يعيشها بعد تعثر حالات التغيير السياسي في أكثر من حالة عربية.
ــــــــــــــــــــــــــ ناصر جابي - منشورات القدس العربي .