بعد أن
افتكَّ الجزائريون مجموعة لا يجب أن يُستهان بها من الانتصارات الكبرى بكل
المقاييس، على الأقل بمقاييس البلدان العربية، من أهمِّها على الإطلاق، إطلاق
العنان لحرية التعبير في الوسائل المختلفة، إضافة إلى تكريس الحق في التظاهر الذي
ينصُّ عليه الدستور الجزائري، وخصوصا في العاصمة التي يمنع فيها التظاهر تحت أي ظرف
من الظروف؛ فبمليونياتها، أصبحت الجزائر عاصمة للحريات بكل ما تحمله العبارة من
معان، حرية رُصِّعت بجواهر السلمية التي لم نشهد لها نظيرا، مقارنة بالأعداد التي
شاركت في المسيرات المليونية عبر كامل التراب الوطني.
أهم ما كشف
عنه الحراك السلمي الجزائري، مدى فضاعة مؤسسات السلطة، ومدى افتقارها إلى مرجعية
قانونية ودستورية في تسيير بلد بحجم الجزائر، فقد أُذِيبَ الجليد عن جبال الفساد
الذي تفشى منذ تولي بوتفليقة الحكم سنة 99، وخصوصا في العهدتين الأخيرتين مع تردِّي
الحالة الصحية للرئيس وتولِّي الأسرة المحيطة به مسؤولية إدارة الدولة. إضافة إلى
هذا، لقد أسقطت صيحات الشباب الجزائري حصون المعارضة من أبراجها العاجية، ومن الأوهام
التي كانت تُسوِّق لها على أنها معارضة للنظام في ظاهرها، وفي حقيقة الأمر أنَّها
تعمل على مبدأ المحاصصة لاغير، والاستفادة قدر المستطاع من فتات ما تركته أحزاب
الموالاة من كعكة التسلط على الشعب. هذا ما أدَّى إلى ضرورة نفي كل الأحزاب ووضعها
في كفَّة واحدة، واعتراض الشارع الجزائري على قيادة الحراك من طرف الطبقة المشتغلة
بالسياسة باختلاف توجهاتها وأيديولوجياته، فالجزائري الآن يبحث عن توجُّهٍ واحد، أيديولوجية
واحدة، حزب واحد : المادة رقم سبعة من الدستور والوطنية لا غير.
قوة الحراك الذي اتَّسعت دائرته
لتشمل كل أطياف المجتمع وطبقاته، أثَّرت بشكل كبير في استجابة الجناح الرئاسي إلى
المطلب الشعبي بالتخلي عن العهدة الخامسة، ولكن مع رفض الشارع لهذه المناورة
والاستمرار في الاحتجاج، خرج قائد الأركان احمد قايد صالح بتصريح جعل الشارع
الجزائري في طاولات مستديرة لتحليل قراره بضرورة تفعيل المادة رقم 102 من الدستور،
فهو بهذا يُعلن ضمنيا التخلِّي النهائي عن بوتفليقة، وهو الذي كان في القريب من أشدِّ
المدافعين عن العهدة الخامسة، إضافة إلى أنَّه من المتعارف عليه في كواليس السلطة
الجزائرية، أن القايد صالح يُبدِي ولاء منقطع النظير لبوتفليقة ومحيطه الأسري. وبمُجرَّد
مطالبة مؤسسة العسكر بإعلان شغور منصب الرئيس، سارعت طبقات سياسية أخرى بتأييد
مسعى القايد، تأكيدا منها على عقلانية القرار وحكمته، على غرار «التجمع الوطني
الديمقراطي» على لسان أمينه العام أويحيى،
وحزب جبهة التحرير الوطني ونقابة العمال على لسان سيدي السعيد، ولا يجب أن
ننسى أنَّ كل هؤلاء، هم الذين رشَّحوا بوتفليقة لعهدة خامسة، ومن قبله تأييدهم
للعهدتين اللتين كانتا بفضل تغيير.
خطاب
القايد صالح، يمكن وصفه بِدَوِيِّ انفجار عظيم، تناثرت شضاياه لتحرق المحيط
الرئاسي بِرمَّته دون استثناء، حتى أنَّ هناك أصداء ترى بأنَّ القايد صالح لم
يستشر حتى عائلة بوتفليقة في إعلانه لتطبيق المادة 102.
إنَّ المتأمِّل
للمشهد السياسي الجزائري، سيدرك حتما أنَّ مثل هذا القرار بلا فائدة حتما، من
منطلق أنَّ المجلس الدستوري هو من سيسهر على تنفيذه، في حين أنَّ رئيس المجلس
الدستوري الطيب بلعيز يعتبر هو الآخر من الموالين بشدة لبوتفليقة وعائلته؛ وحتى في
حالة الاتِّفاق على هذا الحل الدستوري، فإنَّ المشكلة التي سيصطدم بها الحراك هو تَولِّي
رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح زِمَام السلطة مدَّة 45 يوما إلى غاية إجراء
انتخابات رئاسية، وهو ما يرفضه الشارع بالمطلق، بحكم أنَّ بن صالح أيضا من رجالات
النظام البوتفليقي؛ وبالعودة إلى الشعارات التي رفعها المتظاهرون في الولايات
المختلفة، يطالبون بتصفية الساحة السياسية من النظام القديم بكل شخصياته ورموزه،
فكيف لبن صالح أن يتولىَّ قيادة المرحلة الانتقالية، وهو لا يمتلك الشرعية
الشعبية، إضافة إلى ميوله الديكتاتورية، فهو سيسهر حتما على التفنُّنِ في تزوير
الانتخابات لصالح الشخصية التي سوف يُتفَقُ من قبل النِّظام الحالي؛ وهو ما اعتبره
الشاعر التفافا خبيثا ومُقَنَّنًا على مطالبه وحراكه السلمي؛ ومن زاوية أخرى، يمكن
لنا قراءة قرارا القايد صالح بأنَّه إيحاء بأنَّ انتقال السلطة لن يكون بقوى
سياسية، بل سيكون على يد المؤسسة العسكرية من جهة، والتأكيد على الدور الذي يقوم به العسكر في
صناعة القرار السياسي في الجزائر من جهة أخرى.
ما يمكن أن
نُنَبِّه له، أنَّ الحراك لن تحسمه الشعبوية تشتُّتِ الصفوف، بل التأطير المحكم من
قبل شخصيات ذات قابلية عن الأغلبية من المجتمع، شخصيات معروف عليها الوطنية
والنزاهة والصدق، بغاية الحفاظ على ما تحقَّق إلى حدِّ الآن من مكاسب على مستويات
مختلفة، وخصوصا السياسية منها، هذا من زاوية، ومن زاوية أخرى، استمرار الضغوطات
على المؤسسة العسكرية في السَّهر على الانتقال الديمقراطي والسَّلِس للسلطة، وربما
يكون ذلك بتأسيس حكومة إنقاذ وطني تقود البلاد إلى غاية إجراء وتنظيم انتخابات ديمقراطية،
ومن ثمَّ العمل على تعديل الدستور، لبناء دولة مؤسَّسات ذات قاعدة قانونية صلبة.
الأستاذ:
طالبي عبد الحق /أكاديمي وناشط سياسي.